من بين مسلمات علم الهندسة البسيطة تلك البديهية التي تقول أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، وكل من مرَّ بالمرحلة الإعدادية لا بد أنه يتذكر تلك المسلمة رغم بداهتها وعدم حاجتها إلى التذكير أو البرهان.
هذه المسألة النظرية لا تقبل الجدال عندما يتعلق الأمر بقياس المسافات المسطحَّة، لكنها عند التعاطي مع قضايا المجتمعات السياسية والفكرية والاجتماعية، قد لا تكون دائما قابلة للتعاطي والتطبيق.
من هذا المنطلق يدرس طلاب العلوم السياسية في الجامعات والمعاهد المتخصصة، نظرية تعدد البدائل، حيث إنه وفي كل مشكلة من مشاكل السياسة والمجتمع والاقتصاد والإدارة تتداخل مجموعة من العوامل والمعطيات المتحركة والمتغيرة والمتحولة التي يصعب معها التعاطي بمنطلقات البديل الواحد (على أساس الانطلاق من بديهية الخط المستقيم) ويبقى تعدد البدائل منطلقاً شبه إجباريٍ عند ما يصبح البديل الواحد مصدر تهديد بفشل الموقف المتخذ أو القرار المتبنى أو المصير النهائي للقضية موضوع المناقشة والدراسة، فما بالنا والأمر يتعلق بمصير شعب له تاريخه وهويته وثقافته وتراثه وبصماته المتميزة في الإرث الحضاري الإنساني.
إن البدائل هي مجموعة من الخيارات التي لا بد منها للمفاضلة بينها قبل اتخاذ القرار السياسي أو الإداري أو حتى العسكري، ومن خلال هذه المفاضلة يمكن وضع حسنات ومساوئ كل بديل من هذه البدائل في كفة الميزان، وتقوم المفاضلة على أساس دراسة وبحث العوامل المتداخلة في القضية السياسية أو القضية عموماً التي يراد اتخاذ القرار-الموقف بشأنها، فقد ينجح هذا البديل في ظرف معين أو في التعامل مع قضية معينة، لكنه قد يفشل في ظروفٍ أخرى أو عند التعامل مع قضية أو قضايا أخرى ولو كانت من نفس صنف القضية السابقة لكن مع تغير المؤثرات والعوامل الداخلية والخارجية – الموضوعية أو حتى الذاتية.
إن القضية الجنوبية هي قضية سياسية وطنية اجتماعية اقتصادية ثقافية وتاريخية بكل المعاني، تتداخل في تكوينها والتأثير على صيرورتها عشرات العوامل والمؤثرات (منها السلبية ومنها الإيجابية، ومنها الداخلية ومنها الخارجية) ومن هنا تأتي أهمية دراسة تلك العوامل والمؤثرات ووضعها في كفة ميزان التقييم والبحث ومن ثم اختيار البديل أو البدائل المتعددة، وتحديد الخيارات ذات الأولوية والأفضلية عند اتخاذ القرار النهائي بشأن آليات العمل وأدوات الوصول إلى غايتها النهائية، والخروج من دائرة البديل الواحد أو فلسفة الخط المستقيم.
أعرف أن هذا الكلام نظريٌ صرف وربما غير ضروري بالنسبة للبعض لكنني أردت منه وضع مقدمة للقضية التي سأتوقف عندها في الحلقة أو الحلقات القادمة فانتظروني.
وتقبلوا محبتي تقديري