كتب/ مجدي عبدالله أحمد بن أحمد الحالمي
الأب كلمة عظيمة قد تكون قصيرة الطول قليلة الأحرف إلا أنّها طويلة الأمد في العطاء كبيرة المكانة.
لقد كان أبي عمود البيت الذي يستند عليه الصغير والكبير؛ فهو القائد والصديق والقلب الحنون الذي ضمنا جميعا وأرشدنا إلى الصواب في جميع نواحي الحياة، ولذلك فإنه كان ومازال قدوة عظيمة لنا، فوجوده كان يشعرنا بالفخر والاطمئنان والرغبة في المضي بنفس طريقه في الحياة، لأنه بالنسبة لنا مثال لا يمكن أن يأخذ أحد مكانه.
حينما أتحدث عن أبي؛ فإنني أتحدث عن الأمان والسند والعطاء، وذلك لأن الله تعالى قد وضع الحنان والرحمة والحب كغرائز أساسية فيه.
عندما كنت أنظر إلى أبي فإنني كنت أرى فارسا مغوارا يقود الحياة من أجل إسعادنا، حمل على عاتقه مسئوليات عظيمة؛ فقد كان دوما يبدوا كالجبل لا يمكن أن ينهزم أمام نوائب الحياة من أجلنا.
لقد كان أبي هو المحور الرئيسي الذي ربطنا بالعالم المحيط؛ حيث أنه قام بإخراجنا إلى الحياة ودفعنا إلى الأمام وتشجيعنا على التقدم، فلم نشعر قط بالخوف والقلق في ظل وجوده، السند الذي حمانا وأعطانا بلا حدود، فهو القدوة التي لا تشبهها أو تماثلها أي صورة أخرى في الحياة.
لقد كان أبي رجلٌ لا يمكنني وضعه خارج دائرة الكمال فأنا أراه بعين الرضا وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة، فأبي رجل عِصاميٌ صنع نفسه بنفسه. فهو قدوتي ومرآتي في الحياة... تعلّمت منه الخير كيف أفعله والشر كيف أدرأه دون تنظير منه ودون محاضرات طويلة وعريضة، وبالرغم من كثرة الدروس والمواقف التي تعلمتها منه والتي ستحتاج إلى مجلدات لتدوينها لكن سأحاول هنا أن أوجز بعضا من أهم المواقف والدروس التي تعلمتها منه.
الموقف الأول:
كنت في الرابعة عشر من عمري عندما قدِمَت إلينا امرأة أرملة في الأربعيناتِ من عمرها، جاءت وسيل من عبارات الشكر والدعاء على لسانها لأبي، دعت له بالخير حتى جفّ لسانها، فسألتها لِمَ كل هذا.. فأجابت: لولا صدقات أبيك لقتلني الجوع أنا وأولادي. فهمت من هذا الموقف أن الصدقة تكون سِرًّا دون رياءٍ وتباهٍ فأبي لم يقل لنا يوما أنه يكفل هذه المرأة. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ". صدق الله العظيم... شكرا أبي على درس الصدقة المجرّدة من المـَنِّ والأذى.
الموقف الثاني:
قبل سنوات عدة دخلت في نقاش حاد مع أحد الناس، ومع كلمة تلو أخرى تطاول على أبي دون سبب ورشقه بعبارات بعيدة عن الأدب، فاض كأسي وثُرت واتصلت بوالدي وحمَلت له كلّ الكلام بما فيه من شتائم فأجابني ببرودة قاتلة: وماذا بعد؟ اقطع النقاش وتعال إلى البيت.
انتظرت منه ردة فعل قوية فصعقني بحِلمه وصمته الذي أنهى به الموضوع ومرّ يوما على القصة حتى جاءه الشاتم معتذرا وقَـبِـل أبي اعتذاره. الدرس الذي أخذته من أبي أنّ جمالية كظم الغيظ والعفو تكمن في كسب محبة الناس في الدنيا والأجر في الآخرة حتى وإن بلغ كره أحدهم لنا أشدّه إذ يجب علينا كمسلمين أن ندفع بالتي هي أحسن وأن يسبق حِلمنا غضبنا.
قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". صدق الله العظيم... شكرا أبي على درس جمال العفو والتسامح.
الموقف الثالث:
لقد كنت سابقا من عُشاق الشكولاتة لحدٍ بعيد جدا فمن يُحبني يُهديني لوحًا فاخرًا من الشكولاتة وأنا بطبيعتي الإنسانية أحب أن يشاركني أهلي في أكلها فنستمتع معا.
كان أبي الوحيد الذي يقول لي "لا.. أنا لا أحبها" عندما أعرض عليه قطعة، فبقيت سنوات وأنا أعتقد أنّ أبي لا يحبها إلى أن تخرجتُ وتوظفتُ وقبضتُ أول راتب لي فسألته ماذا أشتري لك أجابني "شكولاتة" فقلت له مازحا منذ متى وقعت في حبها فبهرني بإجابته أنه يحبها منذ زمن بعيد، غير أنه آثر أن آكلها أنا ظنّا منه أنّي أحبها أكثر.
وهذا مثال بسيط أمام أشياء كثيرة أبي آثرها لنا كأن أيضا لا يأكل حتى ننتهي نحن وذلك حرصا منه أن يرى الكل شبعان وإن لم نشبع أعطانا صحنه. أخذت من أبي درسا عميقا في الحب، الذي يحب يتنازل عن أشياء يحبها من أجل من يحب، أبي لم يعطني يوما محاضرة عن هذا، بل كان يمارسه وتعملنا منه ذلك. شكرا أبي على درس التنازل الجميل من أجل من نحب.
الموقف الرابع:
ذات يوم مرض والدي، واشتد عليه الألم، فلما أردنا نقله إلى المشفى لإجراء عملية في قلبه التي كانت تؤلمه جدًا وقف أمام بوابة البيت، وأشار بيده قائلاً:
"بخاطرك يا بيت!!!"
يا رب إما أن تعيدني قويًا أو أن تلحقني في جوارك!
يا رب لا تكِلْني إلى أحد! لا تحوجني إلى أحد!
يا رب:
"خذ بيدي قبل أن أقول لمن
أراه عند القيام خذ بيدي"
رحل أبي إلى الرفيق الأعلى في ١٨ من شهر نوفمبر ٢٠٢٣، عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، ولم يعد، ولم تعد قصصه التشويقية، وظلت بوابة البيت شاهدة على الدعاء.
كان بيت الشعر عالقًا بذهني، ثم اكتشفت أن فيه لحنا كما سمعته منه في كلمة (أقول)، لكني لم أكن أعرف البيت، ومن قائله آنذاك، حتى اهتديت مؤخرا إلى بيتين معا للشاعر مصطفى التل هما:
يا رب لا تبقني إلى أمدٍ
أكون فيه كَلاًّ على أحد
خذ بيدي قبل أن أقول لمن
أراه عند القيام خذ بيدي
غير أن ظاهر القصة قد يتهمنا بنوع من القصور - ولم يكن حاشا معاذ الله – لكنها تدل على عزة نفس تملّكها هذا الأب، وعدم قبوله بأي هوان، وعدم رضاه بأن يكون ضعيفًا أمام أحد، حتى لو كان من أقرب المقربين إليه. وبهذا تعلمنا درسا مهما في عزة النفس والعفاف. يقول الدكتور أحمد بن صالح السديس:
هذا أبي يحكي فتوته التي وهنت يجدب في الفؤاد العاني
قلب الفتى ما عاد يحمل نبضه حتى غدا كالشيب لا الشُّبان
قلب عليل يشتكي لكنه عند الشدائد قائد الفرسان
أما النصائح الذي طالما حرص على تعليمنا إياها وهي:
١- أجعل التحصيل العلمي أعلى وأهم أولوياتك: تشجع وتحمس لطلب أعلى درجات العلم واجعله هدفا رئيسيا في حياتك قبل المال أو الوظيفة ...الخ
٢- كن عظيما وراقيا: في حديثك، واهتماماتك، وسلوكك، وعطائك، وأخلاقك، وعلاقاتك، وفي مختلف نواحي حياتك. وارتقي وانأ بنفسك عن السفاهات وتوافه الأمور. ولاتجعل اهتماماتك سطحية ولا تجالس من هم كذلك وانتق جلسائك وندمائك من أصحاب العلم والأخلاق والهمم العالية.
٣- لا تهمل القراءة والاطلاع: مهما بلغت مشاغلك اليومية فلا تهمل أبدا قراءة الكتب والاطلاع على الأخبار من حولك. فهمك سيوسع من مداركك، وسترتقي فكريا بشكل مستمر، وسيتكون لديك رابط قوي بين الفهم العلمي العميق، والواقع المعاصر الذي تعيش فيه.
٤- لا تتنازل عن مبادئك وقيمك: خلال حياتك ستمر عليك الكثير من المواقف الصغيرة أو الكبيرة التي ستختبر مدى التزامك بمبادئك وقيمك التي تدعيها. الالتزام بالمبادئ والقيم صعب وثقيل أمام المغريات وهنا تظهر معادن الرجال وتظهر مبادئهم وقيمهم وأولوياتهم الحقيقية.
٥- ثق بالله وبنفسك: لا ينبغي لك أن تربط مصيرك ومستقبلك بشخص أو منصب أو أعطيه أو غيرها من الأمور فكل شيء قد يتغير ويتبدل في ليلة وضحاها ... أجعل كل ثقتك في الله وعش نزيها كريما عزيزا مستمدا ذلك من الله وثقتك في نفسك.
٦- احذر من التكبر والغرور: فهو من أسوأ الصفات التي قد تصيب أي إنسان والتي تجعلك تخسر كل ما بنيته.
هذا ليس سوى غيض من فيض مما تعلمته أنا واخواني وغيري ممن عاشروه. فقد كان مدرسة بحق وأوتي من الحكمة الشيء الكثير وبشهادة الكثيرين الذين أثنوا على دماثة أخلاقه وغزارة علمه وسداد بصيرته.
هذا والدي الذي نشأت بحضنه، فبفقدانه لن يُعوضني شيء، بوفاته ظهرت الثغرات وظهر الفراغ الذي تركه، وفقدنا أكبر مقوّمات أسرتنا وعمود بيتنا وأساسه الذي لا طالما ارتكزنا عليه، فلقد أشعرنا رحيله حقا بالغربة. يقول الدكتور أحمد بن صالح السديس:
أبتاهُ مهلا، قد مَلَكْتَ جناني، فَلِمَ الرَّحيلُ وما لبثتَ ثوانِي؟
ليلي يطولُ ولا أحِسُّ بفجره بعد الفراق، فما أمَدَّ زماني!
الحزن زاد على الليالي ظلمة والذكريات تهز كل كياني
لكن نحمد الله أن باب بره مازال مفتوحا من خلال زيارة أرحام الأب ووصل أصحابه وبرهم وتقديم ما يلزم لهم والدعاء له في كل مواطن الدعاء المستجاب والتصدق عنه، يقول أبو قاسم الشابي:
كنتُ أَحْسَبُ بعدَ موتكَ يا أَبي ومشاعري عمياءُ بالأَحزانِ
أَنِّي سأَظمأُ للحياةِ وأَحتسي مِنْ نهْرِها المتوهِّجِ النَّشوانِ
وأَعودُ للدُّنيا بقلبٍ خافقٍ للحبِّ والأَفراحِ والأَلحانِ
الأب شجرة عطاء الأب كالشجرة في العطاء
فقد كان يمنح بلا مقابل، وكالنهر في الحب والحنان دائم الحب، فقد كان صمام الأمان للأسرة يحمينا من المخاطر التي تُحيط بنا، فهو دفء قلوبنا في الشتاء وفرحنا في الربيع وهو الذي لا يزوره النوم حتى يطمئن علينا بأنّ كل واحدٍ منا في أحسن حال، فقلبه لا يجد لذة الراحة إلا برؤيتنا معافين وفي أحسن حال... يقول الدكتور أحمد بن صالح السديس ...
ستظل يا أبتي بقلبي حاضراً تتزاحم الذكرى مع الأشجان
فاعذر فإني إن ذكرت مكارماً فلقد بليت بآفة النسيان
واصفح فإني ما وفيت بحقك ال عالي ولا بأريجك النُّوراني!
أبتاه إني إن نظمت مشاعري في بحر حبك هائج الدوران..
فلقد أطبت قصائدي ووهبتها فيضاً من الإبداع والأوزانِ
يا نفسُ صبراً في المصاب فإنني لله للرحمن حين أُعاني
وبه اعتصامي حين يصرخ جازع وإليه ترفع للسماء يدان
وإلى اللقاءِ أبي بعدنٍ إنها تُنسي المصابَ مرارة الأحزانِ
نسأل الله يا أبي أن يرحمك الله رحمة تسع السماوات والأرض...