كتب الدكتور/ علي صالح الخلاقي
هناك الكثيرون من الجنود المجهولين الذين أفنوا معظم سنوات حياتهم في سبيل وطنهم وشعبهم دون مَنّ أو تظاهر، وما زالوا جذوة في النشاط.. يعطون بسخاء ويعملون بصمت وبنكران ذات، لا يرجون ثواباً ولا تكريماً، رغم مسيرتهم الطويلة التي تركت بصماتها في كثير من المواقف والمواقع التي مروا فيها، وتركوا آثاراً إيجابية تشير إليهم بالبنان، ورغم الظروف الصعبة التي تقف أمامهم والجحود والنكران من قبل المتسلقين على سلالم السلطة والفيد، ما تزال هاماتهم شامخة، لم تحنها العواصف المتتالية.
ويحفل تاريخنا المعاصر بالكثير من الاسماء المتميزة واللامعة، لكننا للأسف الشديد لا نشعر بهم وهم يتحركون بيننا يعملون ويكدون بهمة ونشاط كبيرين من أجل انتصار القيم والأهداف النبيلة لشعبنا.. ولا نكاد نلتفت إليهم عادة إلا حين نفتقدهم للأبد بعد الرحيل..
ومن بين هؤلاء الشخصية الوطنية الجنوبية، العسكرية والاجتماعية، الفقيد صالح محسن علي القاضي الخلاقي، عضو مجلس المستشارين للمجلس الانتقالي الجنوبي، نائب رئيس اللجنة العسكرية للجيش والأمن الجنوبي، وأحد القيادات العسكرية الجنوبية ممن لم يستكينوا لليأس والاحباط في مسيرة النضال الوطني حتى آخر لحظة من حياته، حيث غادرنا صباح اليوم الأربعاء 27فبراير2024م، بعد حياة زاخرة بالنضال الوطني والعمل الاجتماعي..
أجيز لنفسي أن أتحدث عنه، ليس لأنه صديق قريب إلى نفسي، بل لأنه أحد القادة العسكريين ومن رعيل المناضلين المخلصين ممن كرسوا حياتهم ووقتهم من أجل قضايا وطنهم وهموم شعبهم، ويعرف زملاؤه ورفاق دربه ومسيرته الحافلة الذين عايشوه وزاملوه منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم حجم ودور ومكانة هذه الشخصية العسكرية والاجتماعية في مختلف مراحل النضال الوطني.
بدأ فقيدنا حياته العملية في ريعان شبابه، بعد الاستقلال الوطني مباشرة حينما التحق في القوات الشعبية التي يقودها الشهيد البطل ثابت عبد حسين، في معسكر جبل (العُر) في يافع، وكان ذلك المعسكر حينها أشبه بأكاديمية عسكرية ميدانية تلقى خلالها الملتحقون التدريبات العسكرية المختلفة على الأسلحة والفنون القتالية على أيدي القائد الفذ ثابت عبد الذي نقل معارفه العسكرية التي تلقاها في القاهرة لأفراد ذلك المعسكر وقد كانوا لاحقاً ممن تقدم الصفوف واجترحوا المآثر البطولية في حرب 1972م التي خاضوها ضد عدوان قوات الجمهورية العربية اليمنية، وكان الجندي الشاب صالح القاضي أحد الجنود الذين أبلوا بلاءً حسناً في تلك المعارك، كما كان ضمن كوكبة متميزة من مغاوير القوات الشعبية ممن تم اختيارهم بعناية وارسالهم لتعزيز جبهة مكيراس في تلك الحرب التي حقق فيها جيش اليمن الديمقراطية انتصاراً حاسما ضد عدوان قوات نظام الشمال حينها.
وعند تأسيس المليشيا الشعبية عام 1973م، كقوة احتياطية مدربة ومنظمة كان ضمن أول دفعة التحقت في مدرسة الشهيد (عمر علي) من قيادات المليشيا الشعبية وبرزت خلال هذه قدراته العسكرية والتنظيمية، حيث حاز على المرتبة الثانية بين الخريجين، ثم أُرسل مباشرة إلى محافظة المهرة ليضطلع ببدء تشكيل وحدات المليشيا الشعبية هناك وإعدادها وتدريبها.
وفي أواخر عام 1974م ولما أبداه من تفوق في تنفيذ المهام والقدرة على استيعاب المعارف الجديدة، رأت القيادة الوطنية إرساله مع عدد من زملاءه في دورة تأهيلية إلى جمهورية كوبا لإعدادهم وتأهليهم، وتمكن خلال هذه الدورة التي استمرت قرابة ثلاثة أعوام من الحصول على معارف عسكرية وسياسية مكنته عند العودة للعمل في القيادة الوطنية للمليشيا الشعبية. ومن موقعه هذا أسهم في إعداد المليشيا العمالية وكذا المليشيا الطلابية في مديريات محافظة عدن. كما كان له دور ملموس في العمل الجماهيري بين صفوف المواطنين وفى متابعه قضاياهم.
وقدر له أيضا يخوض المعارك البطولية في حرب الجنوب ضد عدوان قوات الجمهورية العربية اليمنية في العام 1979م، وسجل مواقف قتالية مشهودة باعتراف زملائه. ثم ابتعث مجدداً للدراسة الاكاديمية العليا في جمهورية بلغاريا، وكان مسئول البعثة هناك، وقد حاز درجة عالية في هذه الدورة، وعاد ليتبوأ منصب مدير التجنيد، ثم تنقل في مناصب مختلفة وعمل في وزارة الدفاع في دائرة العلاقات العامة.
وفي حرب 1994م الظالمة التي شنها نظام صنعاء على الجنوب، خاض معارك الدفاع عن عدن والجنوب في مقدمة صفوف المقاتلين، مثلما كان كذلك خلال حربي 72م و79م، وبعد اجتياح الجنوب واحتلاله وتصفية كوادره من المؤسسات الأمنية والعسكرية والإدارية ، كان ضمن من غادروا الوطن، إذ خرج عن مع عدد القيادات عن طريق البحر إلى جيبوتي، ومنها غادر للعمل إلى أمريكا وبقي فيها عدة سنوات بعيداً عن الأهل والوطن، ورغم حلم الكثيرين بالوصول إلى أمريكا أو العمل فيها، إلا أنه شخصياً لم يطب له المقام هناك، وظل الشوق ينازعه للعودة إلى وطنه الذي أفنى زهرة شبابه وسنوات حياته من أجله، خاصة وأنه لم يتوقع أن يجد نفسه بعد هذا العمر الطويل الذي سلخه من عمره في خدمة وطنه بعيداً عنه وعن أهله وذكرياته ليوفر لهم لقمة العيش النظيفة، وهكذا كان عليه أن يبدأ حياته العملية الشاقة هناك من جديد في ظروف صعبة ولغة جديدة كان عليه أن يتعلمها، وقد تمكن من ذلك في وقت قياسي، ربما لإجادته للغة الاسبانية وكذا اللغة البلغارية التي سبق له تعلمهما خلال سنوات دراسته في كل من كوبا وبلغاريا.
وحين صدر قرار العفو العام عاد محمولاً على أجنحة الشوق والحنين إلى أهله في عدن على أمل أن يتم تصحيح وضعه ووضع الآلاف من الضباط العسكريين الجنوبيين أمثاله، لكن شيئاً من ذلك لم يتم، وبقي في بيته بدون عمل ضمن من أطلق عليهم (حزب خليّك بالبيت).
لم يتقبل مثله مثل كل المظلومين من الكوادر والكفاءات الجنوبية هذا الوضع، ولم يستلموا لليأس، فرفعوا أصواتهم عالية مطالبين بحقوقهم وحقوق شعبهم المسلوبة من قبل عصابات الفيد والاحتلال، وكان ضمن القيادات العسكرية التي تصدرت جمعية المتقاعدين العسكريين ومن ثم الحراك السلمي منذ 2007م وبقي يعمل بهمة وحماس مع زملائه ضد نظام المخلوع، وكان حضوره ملموساً من خلال تواجده في عضوية عدد من اللجان في الحراك الجنوبي وفي جمعية المتقاعدين العسكريين.
وحين تكرر الغزو الحوثي والعفاشي على الجنوب في العام الماضي 2015م كان له دوره الملموس في مواجهة هذا الغزو وعمل بدأب في تنظيم وإدارة عمليات المقاومة الجنوبية في عدن وفي تقديم الدعم اللوجستي مع عدد من زملائه، وظل بيته مقراً لاجتماعات متواصلة للقيادات الميدانية بل وغرفة عمليات تدار منها بعض جبهات المقاومة، مثلما كان قبل ذلك ملتقى لجلسات الكثيرين من قيادات الحراك السلمي الجنوبي.
أما دوره الاجتماعي فمتعدد الجوانب، حيث تبوأ مسئوليات متعددة في عدد من الجمعيات الخيرية، منها رئيس لجنة الرقابة لجمعية يافع الخيرية بعدن، وأمين عام جمعية خلاقة الخيرية في عدن، وعضو سكرتارية مجلس تنسيق ابناء يافع في عدن، وله تواصل مع عدد من الداعمين ورجالات الخير ممن قدموا عبره الدعم للمحتاجين واليتامى والأرامل على مدى سنوات وهو ما يشهد له به الكثيرون ممن حصلوا على هذا الدعم عبره سواء من الأفراد أو من الجمعيات الخيرية في محافظة عدن والمحافظات المجاورة التي تقدر له هذه الجهود.
وبرز نشاطه بصورة ملحوظة خلال الظروف الصعبة التي عاشتها عدن والمحافظات الجنوبية بعد العدوان الغاشم، فعمل مع قادة المقاومة على تعزيز وحفظ الأمن والسكينة العامة، والاهتمام بأسر الشهداء والجرحى وحث أهل الخير لدعمهم وتقديم كل المساعدة لهم وكان أحد أعضاء منظمة الإغاثة الشعبية التي ترأسها الشيخ ناصر علي عاطف الكلدي.
ولدوره الاجتماعي الفاعل وعلاقاته الواسعة التي نسجها خلال مسيرة عمله ونضاله الطويلة وللمكانة التي يحظى بها من قبل سكان الحي فقد أختير بالإجماع من قبلهم ليقوم بمهمة (عاقل الحارة) بعد الانتصار على قوات الحوثي والمخلوع، وشرع يقوم بمهمته بإخلاص في مساعدة سكان الحي وفي حل مشاكلهم وتنظيم شئونهم خاصة في الفترة التي تلت الانتصار وغابت فيها أجهزة الدولة.
وضمن نشاطه الاجتماعي هذا نذكر مواقفه وجهوده السابقة في متابعه المشاريع لأهله في مسقط رأسه، وكذلك في حيه السكني في عدن وفي تقديم كل ما يمكن تقديمه لمن يحتاج المساعدة.. وهو ما جعله يحظى بقدير واحترام الجميع.
وظل حتى وفاته نائبا للجنة العسكرية العليا للجيش والأمن الجنوبي التي يرأسها رفيق نضاله اللواء صالح علي زنقل، واحتض بيته معظم اجتماعاتها وكان أحد أعمدتها الرئيسية بشهادة رفاقه، كما كان من القيادات العسكرية الجنوبية التي تنشط في هذا الظرف الصعب، واختير ضمن أعضاء مجلس المستشارين للمجلس الانتقالي الجنوبي..
هذا غيض من فيض من مسيرة عطاء مناضل وطني فذ، من القيادات العسكرية الجنوبية المخلصة والنزيهة ممن واصلوا نضالهم بيننا بصمت وبإخلاص في هذا الظرف العصيب واضعين نصب أعينهم فقط مصلحة وطنهم وشعبهم وتحقيق أهدافه في وطن حر وسعيد، على حساب راحتهم ومصالحهم الخاصة، حتى انهكه المرض فجأة وغادر المستشفى بعد عملية قسطرة ليلقى ربه راضياً مرضياً..
رحمة الله تغشاه والجنة مثواه..
وإنا لله وإنا إليه راجعون..
الأسيف المكلوم
#علي_صالح_الخلاقي
الثلاثاء
27فبراير2024م