كتب/ هاني سالم مسهور
حقيقة سنة 1979 كانت الصانعة لحوادث التاريخ السياسي لما حدث من زلزالين عظيمين ضربا بقوة المنطقة العربية والعالم وما زالت ارتداداتهما تؤثر بعمق في التحولات السياسية.
فالثورة الإسلامية الإيرانية وحادثة جهيمان العتيبي شكلتا هوية الشرق الأوسط. حتى مع توالي العقود فإن الحادثتين صنعتا تحولاً منه نشأت الاستقطابات الفكرية والسياسية.
فالخميني وبعد أن أحكم قبضته على إيران تبنى منهج تصدير الثورة فيما تبنت القوى السنّية في المقابل مواجهة المدّ الشيعي بما أطلق عليه "الصحوة"، فالتطرف قابله تطرف مضاد في معادلة فيزيائية مكتملة.
لم ينج أحدّ آنذاك من تغول المدّ الديني، فالأنظمة العربية وجدت نفسها تعوم في أمواج من خطابات الإسلاميين، غير عاصمة عربية تكاد تكون يتيمة في بلد كان منذ أن أعلن استقلاله الوطني مع خروج المستعمر البريطاني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قرر أن ينتهج نهجا اشتراكيا بتوجهات ماركسية، وعلى ذلك أقام دولة مدنية على أسس علمانية مطلقة ساوت بين كافة أطياف المجتمع المكونّ للدولة.
تلك النشأة الوطنية وإن دخلت في تصادم مباشر مع محيطها الإقليمي وأوقع حرب الوديعة الحدودية مع السعودية غير أنّه أسس لنظام لم يخض فيما خاض فيه العرب من السباحة مع التيارات الإسلاموية فلقد احتمت عدن بنهجها العلماني.
النقد العربي الحاد فكريا وسياسيا للحركة الناصرية والتجربة اليسارية كان مدفوعاً بالصراع الأيدلوجي الذي تشكل بين القومية والرجعية، الحالة النقدية لم تعطِ مدلولاتها الصحيحة للتجربة القطرية لليمن الجنوبي الذي استطاع مقاومة المدّ الديني لاحتمائه السياسي بالنظام العلماني.
احتفظ جنوب اليمن بكامل خصائصه الوطنية فلم يتأثر بمحاولات تصدير الثورة الإيرانية التي لم تجد لها من صدى يذكر كما لم تستطع الصحوة الإسلامية من التسلل إلى المجتمع الملتزم أصلاً بالمدرسة الحضرمية الشافعية التي اتهمت من الرجعيين أنها قبورية شركية إلا أنها صمدت في وجه الحملات المتوالية عليها.
النظام السياسي الجنوبي من العام 1967 وحتى 1990 انتهج سلوكاً واضحاً تجاه التيارات الإسلاموية فلم يسمح لأنشطتها وفقاً لمقتضيات القانون التي كانت الدعوات غير الوطنية، وحتى يوم إعلان الوحدة بين اليمن الشمالي والجنوبي كانت السجون تكتظ بمئات من عناصر جماعة الإخوان والذين استفادوا من الوحدة اليمنية وكانوا رأس الحربة للقوى القبلية والطائفية لشمال اليمن عندما وقعت حرب صيف 1994 والتي انتهت باحتلال اليمن للجنوب العربي.
يغيب عن الناقد العربي وهو يدعو في القرن الحادي والعشرين لإقامة الدولة الوطنية المدنية أن هناك نظاماً عربياً كان منتهجاً ما يدعو إليه بعدما مرت عقود من العام 1979 واجتاحت العالم العربي لوثة التطرف الديني والطائفي التي قتلت وشردت ملايين المواطنين العرب أنه ما زال مدفوعاً بذات النزعة الرجعية التي تدين النظام السياسي في عدن وتعتبره نظاماً شيوعياً.
هذه مفارقة من مفارقات الازدواجية العربية في النظرة النقدية للتاريخ السياسي للتجارب الوطنية، وقد يكون اليمن الجنوبي تشدد في تطبيق الاشتراكية، في مقابل محاولات مضادة للرجعية حاولت أن تفرض نهجها السياسي الديني.
وكما لم ينظر حكام اليمن الجنوبي لاعتبارات الخصائص القبلية لمجتمعهم ففي المقابل التيار الرجعي لم يأخذ في اعتباراته أن هذا المجتمع يرفض أصلاً الفكر الأصولي المتصلب ويميل بطبيعته إلى السلفية الشافعية المتوائمة اجتماعياً.
مما أنتجه النظام السياسي في اليمن الجنوبي أنه أقر قانون الأسرة الذي منح المرأة كافة الحقوق المدنية وهو ما لم تحصل عليه كل المرأة العربية إلا بشيء يسير، كما أن تلك الدولة كانت الدولة الأولى التي قضت كلياً على التعليم في دول شبه الجزيرة العربية، تجربة عدن 1979 تستحق النظر لها بعيون أخرى تخلع عنها النظارات الرجعية فالأخطاء التي ارتكبت من ذلك النظام عرفتها كثير من الأنظمة غير أن الحقيقة الأهم أن العلمانية حمت البلاد مما أصيب به الذين يفرطون في تشفيهم بالتجربة العدنية.