كتب/ د. عبدالله الهدياني
"خذوا هديتكم, فلستُ بحاجتها, ومطلبي هو الجنوب, وليس لي مطلبٌ سواه", الزمان: 2004م, المكان: مديرية الأزارق... ربما يبدو هذا كلاماً عادياً عندما يُبتر عن سياقه, أما إذا نُظر إليه في نفس السياق الذي قيل فيه, فله معانٍ شتى؛ إذ يُعدُّ رسالة للخصم أن القضية قضية وطن وليست شخصية, وأن الجنوب ليس للبيع مهما كانت الظروف والتضحيات, وأن الهدف هو التحرير وليس منصباً أو حقيبة من الدولارات, ورسالة للثوار والأتباع بالثبات وعدم المساومة مهما كانت المغريات.
عبارة قالها الرئيس القائد/ عيدروس الزُّبيدي, في لحظة لم يستطع أن يستوعبها غيره؛ إذ كان مطارداً ومحكوماً عليه بالإعدام, يتنقل بين قرى وشعاب مديرية الأزارق, فلم يتمكن حتى من إلقاء نظرة الوداع على جثمان والده قبل أن يوارى الثرى, أو الاسترخاء لحظة بين أطفاله وأفراد عائلته, وتم قطع راتبه كإمعانٍ في التضييق من قبل نظام صنعاء, وليس هناك بصيص أملٍ يتكئ عليه, فالمزاج المحلي والإقليمي والدولي إما صامتاً أو في الجهة الأخرى.
إنها فاتورة باهضة دفعها نتيجة نضاله الطويل وهذا ليس بغريب عنه, فهو الذي نزح بعد حرب صيف 1994م مع من نزح, وما هي إلا أشهر قليلة في جيبوتي مثَّلت له استراحة محارب, حتى عاد يقود الموجة الأولى للتحرير في الوقت الذي ذهبت فيه كل قيادات الصف الأول إلى المنافي للعيش في أماكن أوفر أمناً, وبقيت جماعة أخرى صامته مغلوبة بعد أن استوطنها اليأس وسلمت بالمستحيل.
وفي ظل هذا الواقع المظلم أطلق القائد لنفسه عزها, حلّق في المدى, وقف مع التاريخ وقفة تأمل, واتضحت له الحقيقة, أن البشر رغم انحدارهم من سلالة واحدة, إلا أنهم يختلفون في أشياء كثيرة من ضمنها الأفكار والصفات, وكما أن فيهم من يعيش ليأكل, ففيهم من يأكل ليعيش, والفريقان على نقيض, ففي الوقت الذي اقتصرت فيه حياة الكثيرين على الانغماس في متع الحياة مهما كانت الوسائل إليها, ترجَّل الفارس الأقدار والخطوب, وزهد بالحياة رغم مغرياتها, إلا ما يقوّيه على البقاء, وحين أمَّم قراصنة الحياة حظوظ الآخرين؛ ليشيدوا بروجهم من أنين المقهورين, وعلى أكتاف الضعفاء, انبرى لتكميم الجراح, وتخفيف وطأة الألم, فرأى نظام صنعاء أن وسائل التضييق والأحكام الجائرة والتهديد والأسلوب الخشن لم ينفع مع الرجل, فتحولوا إلى الأساليب الناعمة, ليحل فجأة وفد رفيع مرسل من قبل رئيس سلطة الاحتلال ويصل إلى مديرية الأزارق ليخبروه أن رئيسهم قد بعث إليه بتلك الحقيبة الحبلى بالملايين كهدية بغض النظر عن الرد والقرار الذي سيتخذه وأنه سيمنحه المنصب الذي سيختاره, فما كان من القائد الصلب إلا الإجابة عليهم بهذه العبارة: "خذوا هديتكم ...", إنه موقف صلب في لحظة ضعف فكيف والحال قد تبدَّل والحلم قد صار حقيقة, أيُّ إيمانٍ بالقضية كان في قلب الرجل وفي تلك الظروف, إنه إيمانٌ أقلَّ ما يمكن أن يقال عنه أنه إيمانٌ ارتقى إلى أعلى درجات التصوّف, فلم يبقَ بجانبه مجالاً لخيالات الشكّ والتردد.
أليس من حق هذا الرجل اليوم أن نبادله الوفاء بالوفاء والتضحية بالتضحية, وأن نقتدي به ونتعلم منه الدروس في حب الوطن والتضحية في سبيله, فالمشوار لم ينتهِ ومازال الدرب طويلاً.