تقرير/ إبراهيم البشيري
تستمر معاناة المعلمين بضعف رواتبهم الزهيدة التي لا تكفي لتلبي حاجاتهم ومتطلبات أسرهم، في ظل انهيار العملية المحلية، الأمر الذي دفع الكثير من المعلمين إلى ترك المدراس والكليات والعزوف عن القلم فامتهن بعضهم أعمالًا حرفية، والبعض حملوا السلاح وتوجهوا إلى الجبهات وهم غير راضين، حيث أصبح الجندي يتقاضى مرتبًا يضاعف مرتب المعلم مرتين، فاتخذوا الجبهات سبيلا لتوفير لقمة عيش كريمة وحتى لا يروا أبناءهم يتسلقون براميل القمامة..
وهناك من يواصل التدريس والمعاناة أثقلت كاهله؛ لذا أصبحت المدارس تدار بما يعرف بالبديل والمتطوعين الذين يفتقرون للخبرة والمنهجية في التدريس، وهذا ما يهدد مستقبل الأجيال بكارثة وإدخالهم في ظلام الجهل والتخلف.
*دموع معلم*
الأستاذ "عميد العرماني" أحد أساتذة جامعة عدن يروي قصة زميله الذي ترك التدريس وذهب للقتال مجبورًا بعد أن تراكمت الديون ونفد قوت أسرته، يتحدث بمرارة قائلاً: "كنت في السوق فصادفت زميلًا لي في التدريس، فسلمت عليه وسلاحه معلق على أحد كتفيه، جرني الفضول فبادرت له بالسؤال: أخي إلى أين ستذهب وما قصة بندقيتك التي لم أرها يوما ترافقك فكل ما أجدك ليس بهذا المظهر وبهذا الشكل فأنت حامل رسالة علمية لا حامل بندقية؟!
أجاب: مقبلا رأسي وعيناه فاضت من الدمع وقال: احتمال نتقابل يوما ما أو لا!.
حاولت أشاطره الفياض ولكن لم تدفعني العاطفة قبل أن أعرف سببه .
مالك خير إن شاء الله ما الذي حصل؟
أجاب: إلى سوق الموت!.
حينها شعرت أنه إلى طريقه إلى الساحل الغربي بعد أن نادى صاحب الباص: باقي نفر! .
مسكت بيده وحاولت إقناعه بعدم الذهاب لكونه مدني ولا يجيد الحروب ومعاركها ولم يعتد عليها .
رفض وقال :اليوم أحرجتني زوجتي!.
كيف أحرجتك ؟!
اصطحبتني إلى المطبخ فقالت: انظر ماذا تبقى معك من قوت يومك؟ لا دقيق لا زيت لا رز لا..لا..لا.. والدموع لا تفارق عينيها!..
قلت: بسيطة سأذهب الآن وأدبر أموري يامرة (بالعامية)، قالت: أي أمور تدبرها؟ قلت: سأذهب إلى البقالة وسأحضر كل المتطلبات، قالت: لا تذهب!! استغربت وقلت لها: لماذا؟
قالت: قلت لك لا تذهب!
حيرتني !خالفت أمرها ذهبت وسلمت على صاحب البقالة فكان الرد على السلام خافتًا، عندها شعرت بشيء حدث قبل مجيئي وربما سيحدث الآن، بثقة منقوصة قلت له لو تكرمت، وورقة الطلبات في يدي وأنا اقرأها معتقدًا بأنه يستمع لي، وبعد أن انتهيت من القراءة قال: لو سمحت خلينا نسكر الباب!، قلت له: أول خارجنا!.. قال: بأيش أخارجك؟!، ناولته الورقة فتبسم وقال: لقد أخبرت ابنك يكلمك وهو يتردد عليّ أكثر من أسبوع بأن المبلغ اللي عندك فاق راتبك ولم أعد أستطيع أن أعطيك أي شيء، أنت معلم!".
*الأجيال في خطر*
الطالب "مجدي القاضي" يقول: "إن دور المعلم تراجع إلى الخلف؛ حيث تم إحلال ما يعرف بالبديل، الذين يفتقرون إلى كثير من سبل التدريس، وأن تواجد الطلاب لا يفرق عن غيابه" - قاصدا عدم الاستفادة.
ويضيف: "إن الفساد وثقافة الاتكالية وعدم القيام بالواجبات والمسؤوليات وانخفاض دخل المعلم جعلت من العلم لا يعطي التعليم أي أهمية، وهذا ينذر بالخطر على مجتمعنا".
ويضيف: "لقد أصبح الطالب مثالا حيا على تردي التعليم وضعف دور المعلم فتراجع مستوى مخرجات التعليم وأصبح الطالب النشيط المبدع الموهوب شبه معدوم في هذه البيئة التي لا تساعد على الإطلاق".
*موت بطيء لروح المعلمين*
دكتور في كلية الآداب "جامعة عدن" - طلب عدم الكشف عن هويته كونه غير مخول للحديث للإعلام - يقول: "لدينا منتدبين يدرّسون لسنوات في مختلف الأقسام، بعد أن صدرت قرارات توظيفية قبل أربع سنوات وبعضها صدرت لأكثر من عشر سنوات بحق هؤلاء المنتدبين، ولكن تضمنت هذه القرارات من الناحية الإدارية دون اعتماد مالي، وأن الاعتماد والتعزيز المالي سيتم كمرحلة ثانية، وإلى اللحظة لم يتم التعزيز المالي الذي أصبح شبه مستحيل في ظل الحكومة الحالية".
ويضيف: "لو فكر هؤلاء المنتدبون إعلان الإضراب عن التدريس للمطالبة بتدخل لمعالجة وضع المنتدبين، فإن الأمور ستسوء على المرحلة التعليمية؛ فعلى سبيل المثال فإن قسم الخدمة الاجتماعية الذي يضم سبعة معلمين من المعيدين، وفي حال تم الإضراب فإن القسم سيتوقف عن مواصلة المشوار وسيضطر إلى إغلاق أبوابه".
ويضيف: "إن براءة ذمة هؤلاء المعيدين أمام الله واستشعارهم بالمسؤولية وإرادتهم المتينة وحرصهم على أبناءنا هو من يجبرهم على مواصلة التدريس، رغم ضعف الإمكانيات وعدم وجود أي حافز مادي"..
واختتم الدكتور حديثه بالتمني - من حكومة شعارها لا حياة لمن تنادي- بأن تعيد النظر في أمر المعلمين والمنتدبين خاصة، وأن لا يقتلوا حماسهم أو يكسروا تلك الروح المنبعثة حامله الرسالة من قلب المعلمين والمعلمات.
*ويبقى المعلم حجر الزاوية*
الأستاذ "مصلح المعبدي" مدرس في إحدى مدارس الثانوية العامة بردفان يقول: "لقد أمسى الواقع مريراً ومخزياً ومحزناً، صرنا في دوامة أضاعت الجميع !فاض الكيل بكوادر العلم وأصبح الحمل ثقيلًا عليهم !!.. المعلم والتعليم في إرهاص عظيم وأخشى أن يسود علينا الجهل والأمية ..!!كم أتحسر على أحلام وآمال وتطلعات صناع الغد ورسل العلم التي أجهضت !".
ويضيف: "أتحدث هذا وكلي ألم ووجع حين أرى حملة مشاعل التنوير ومربي الأجيال أولئك الذين صنعوا القيم الفاضلة وكانوا نموذجًا نحتذي به، أولئك الذين أثروا الحياة العلمية بقدراتهم المتنوعة وسعوا بجهودهم الدؤوبة في خلق المعرفة وتأصيل العلم في كافة مراحل التعليم المختلفة (أساسي، ثانوي، جامعي)".
ويضيف: "نعم لقد أفنى المعلمون والمعلمات أعمارهم وهم شموع متقدة تضيء الطريق في تجارب العلم والإبداع وتركوا بصمات جليلة وبنوا مكانة للعلم والمعرفة عموما".
*صمت مخزٍ تجاه المعلم*
ويقول الأستاذ مصلح المعبدي: "بوقفة تأمل ندرك ويدرك الجميع حجم المعاناة التي يلاقيها المعلم في وضعنا الراهن وظروفه المعيشية الصعبة ووصولا بالأرق الذي يكابده ليل نهار للحصول على لقمة عيش كريمة هانئة، فلم تكن لهم القدرة على مجاراة الواقع الأليم فذهب البعض من حملة القلم إلى جبهات القتال حاملين معهم السلاح والبعض منهم امتهن مهنة حرفية لمجابهة مصاعب الحياة وما آلت إليها ظروفهم الاقتصادية الصعبة.
واللافت للأمر والمخجل والمعيب جدا في آن واحد هو الصمت الرهيب والمقيت واللامبالاة من الجهات المسؤولة عن التعليم ممثلة في الحكومة وفي عدم اهتمامها بالمعلم والعملية التعليمية على حد سواء، فلن ينهض مجتمع طالما ومعلمو الأجيال في الدرك الأسفل من السلم الوظيفي.
إن عدم النظر إلى مطالبهم المتواضعة وتسوية رواتبهم المتدنية ورفع معنوياتهم لما يحملونه من مهنة جليلة تترك بصماتها لجيل بعد جيل يعني بداية العد التنازلي لاندثار القيم النبيلة".
*رسائل استغاثة ومطالبات*
الأستاذ "مصلح المعبدي" يقول:"وإنصافا للمعلم والرسالة السامية التي يحملها تمنى أن نجد آذانًا صاغية من قبل الحكومة والمنظمات والجهات ذات العلاقة والداعمة للتعليم، فالأمر ليس سهلاً وليس مستحيلاً بل يتطلب وقفات جادة حقيقية لإنصاف هذه الشريحة الراقية في المجتمع، مالم فوجهتنا جميعا تسير في ظلام حالك السواد وبدء نهايات القيم النبيلة والأخلاقية، وهنيئا لنا خلق مجتمع فوضوي، عبثي، أمي، جاهل، يعاني الجميع من ويلاته إن لم يحصل المعلم على حقوقه الكاملة والمكانة التي تليق به وبمهنته. وهكذا تبقى العملية التعليمية والمعلم فيها حجر الزاوية، في تقدم ورقي أي مجتمع أو اندثاره".