
كتب / منى احمد
لم يعد الألم الجنوبي قابلًا للاختزال، ولا يمكن اليوم السماح بإعادة صياغة التاريخ بطريقة انتقائية تُظهر محافظةً واحدة كأنها الضحية الوحيدة، بينما تُغفل ما تعرضت له بقية محافظات الجنوب من المعاناة نفسها. إن الجرح الجنوبي جرحٌ جمعي، امتد من المهرة شرقًا إلى باب المندب غربًا، وحاول كثيرون — بقصد أو بجهل — تصويره وكأنه حكر على حضرموت، أو عدن، أو الضالع، أو غيرها. وهذه مغالطة لا تصمد أمام ذاكرة شعبٍ لم ينسَ شيئًا من تاريخه.
لقد مر الجنوب العربي بثلاث مراحل شكلت ما يمكن وصفه بـ”التجربة القاسية المشتركة”:
مرحلة الاستعمار البريطاني التي رسخت سياسات التمييز والإقصاء،
ثم مرحلة حكم الحزب الاشتراكي وما رافقها من صراعات داخلية وتصفيات سياسية وأحداث دامية تركت أثرها على كل بيت جنوبي تقريبًا،
ثم تلتها مرحلة الاحتلال اليمني بعد 1994 وما فرضته من تهميش ونهب للثروات وإلغاء للهوية الجنوبية.
هذه التجارب لم تكن يومًا حكراً على منطقة دون أخرى. فما أصاب حضرموت أصاب عدن ولحج وأبين والمهرة وشبوة وسقطرى والضالع بدرجات متفاوتة. وكل محاولة لحصر الألم في نطاق جغرافي واحد ليست سوى اجتزاء للتاريخ واعتداء على الذاكرة المشتركة للشعب الجنوبي.
والأسوأ من ذلك أن بعض الشخصيات البارزة في الإعلام العربي واليمني تتبنى — عن قصد أو جهل — سرديات تُفرق ولا توحد، وتعيد إنتاج خطاب مناطقي يسهم في تشويه الوعي العام. وأي شخص يروّج لمثل هذه الطروحات إنما يجهل تاريخ الجنوب، أو يتجاهله عمدًا. فالجنوب العربي يمتلك من الوعي والذاكرة ما يكفي لفضح أي محاولة للتضليل أو تحميل محافظة واحدة عبء التاريخ، وكأن بقية الجنوب نجا من الألم أو عاش في غير سياقه الحقيقي.
إن المرحلة التي يمر بها الجنوب اليوم تتطلب وضوحًا وشجاعة في السرد، وتستلزم تجاوز الخطابات الضيقة التي تنسف مشروع الجنوب الجامع. فلا مصالحة بلا صراحة، ولا مستقبل بلا مواجهة صادقة للتاريخ كما هو، لا كما يُراد له أن يُكتب. والجنوب العربي لن يقبل بعد اليوم تضليل الحقائق أو إعادة تشكيل ذاكرته حسب أهواء سياسية أو إعلامية ضيقة.
إن الحقيقة التي يجب أن تُقال بلا تردد هي أن الجنوب كله دفع الثمن، وكل محافظة تحمل جزءًا من هذا الإرث الثقيل. والاعتراف بأن الألم كان واحدًا هو الخطوة الأولى لصناعة مستقبل مشترك يقوم على العدالة، والإنصاف، والتاريخ الذي لا يُخجل من نفسه ولا يُخفي أجزاءه.
لقد قال الجنوب كلمته: لن يُقسَّم ألمه، ولن يُختزل تاريخه، ولن يُسمح لأحد أن يكتب حكاية لا تشبه الحقيقة. والوعي الجنوبي اليوم أقوى من كل محاولات التشويه، وأقدر على الدفاع عن ذاكرته أمام كل الأصوات التي تحاول حرف المسار.
عدت سالم معافى يا وطني
منى احمد
الجنوب العربي