-استطلاع -رئيس التحرير
الضالع.. تلك المدينة الصامدة تصحو وتنام على أصوات المدافع والصواريخ البالستية في جولة جديدة من عدوان شمالي حوثي غاشم، مدينة الشهداء تقف في وجه العدوان بصمود لا يضاهيه إلا صمود أبطالها وجبالها الشامخات.
في الضالع تشتعل الحرب في خمس جبهات، قصف حوثي متواصل لا يفرق بين صغير أو كبير، رجل كان أو امرأة، فجحافل الإرهاب عادت إلى حدود الضالع لتنتقم من أهلها وأراضيها وحجرها وشجرها وكل ما له صلة بها ولو كان كومة من تراب.
"صوت المقاومة الجنوبية" في زياراتها المتتالية إلى مدينة الأحرار طافت في أحياء المدينة الصامدة واقتربت من نبض الشارع المكافح لتنقل صور المعاناة التي يعيشها سكان مدينة الضالع والمناطق الشمالية في المحافظة التي تشهد حربا ضروسا على امتداد شريطها الحدودي الشمالي من مريس وحتى تورصة في مديرية الأزارق.
موجة نزوح غير مسبوقة
في ظل المعارك الطاحنة التي تشهدها الضالع في مريس ومناطق شمال قعطبة وفي حجر والحشاء والأزارق نزحت الآلاف من الأسر من مناطق الاشتباك إلى وسط المدينة بحثا عن الأمان، وهو ما شكل عبئا على المدينة الرابضة في مساحة ضيقة بين سلسلة جبال جحاف وسلسلة جبال حرير والشعيب ومريس.
عشرات الأسر التي نزحت من مريس وشمال قعطبة لجأت إلى المدارس وبعض المباني غير الجاهزة فيما يعيش المئات من الأسر من فئة المهمشين في أكواخ لا تتوفر فيها أبسط صور الحياة الآدمية.
أزمة في الغذاء وغاز الطبخ
في جولتنا القصيرة في عدد من أحياء المدينة لفت انتباهنا طوابير طويلة من الأطفال والنساء جميعهم ينتظرون الساعات الطوال للحصول على أسطوانة غاز للطبخ. أم شاهر امرأة خمسينية وجدناها تقف جانبا تناظر حفيدها ذات الثمانية أعوام وهو يزاحم الحشود التي تقف أمام محل بيع أسطوانات الغاز المنزلي.
اقتربنا من أم شاهر وسألناها عن وضع الناس في المدينة، تنهدت أم شاهر محاولة تجميع قواها المنهارة لترد على سؤالنا: "وضعنا لا يعلم به إلا الله، لي ثلاث ساعات في هذه الشمس الحارقة أنا وحفيدي الذي أتيت به ليأخذ مكانا في الطابور، فأنا لم أعد أقوى على الوقوف في الزحمة". هكذا تقول أم شاهر.
وتضيف أم شاهر قائلة: "لا غاز، لا دقيق، ولا كهربا، حتى الماء نشتريه بسعر مضاعف وكله بسبب الحرب, في الليل نمسي في خوف من صواريخ ومدافع الحوثي، وفي النهار نجري بعد الغاز والماء!".
ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغياب الإغاثة
في منطقة الجمرك شاهدنا المئات يتدافعون أمام بوابة محل صغير، سألنا عن السبب فقيل لنا هؤلاء نازحون يحاولون الحصول على مواد غذائية توزعها لهم إحدى المنظمات، اقتربنا من الزحام وحاولنا التحدث مع بعضهم. الأستاذ علي فضل أحد النازحين كان يحاول قدر الإمكان الوصول إلى بوابة المحل للحصول على قسط من تلك الإغاثة لكن دون جدوى فأمامه كوم من البشر يفوقونه قوة ومتانة.
طلبنا من الأستاذ علي أن يصف لنا الوضع، فتحدث بكل مرارة قائلا: "نحن في حرب منذ 2015 فإذا كانت بعض مناطق الجنوب تحسنت بعد الحرب فالضالع لم تخرج من حالة الحرب أبداً, الأسعار مرتفعة بشكل لا يصدق والغاز معدوم والكهرباء مقطوعة, والمواد الإغاثية يتلاعب بها أصحاب المنظمات وما يصل لنا هو الشيء اليسير الذي لا يستحق كل هذه الزحمة".
الأستاذ علي فضل أرسل رسالة عبر صحيفة "صوت المقاومة الجنوبية" إلى من يهمه أمر الإنسانية سواء الأشقاء في التحالف أو المنظمات الإنسانية قائلا: "أدعو الأشقاء في دول التحالف وكل المنظمات الإنسانية إلى إيلاء الضالع اهتماما خاصا، فنحن نقاتل في خمس جبهات والحوثيون يقصفون المساكن ولا يفرقون بين عسكري ومدني, وهذا ما جعلنا نترك منازلنا وننزح رغم المعاناة".
محمود حسن مواطن آخر تحدثنا إليه بينما كان ينتظر في الزحام للحصول على إغاثة - حسب قوله - محمود قال: "الوضع في الضالع مزرٍ للغاية، الوضع الصحي منهار، مستشفى النصر المستشفى الوحيد يعمل بإمكانيات شبه معدومة وإدارته تحذر من صعوبة الاستمرار في استقبال الأعداد المتزايدة من الجرحى المدنيين والمرضى الذين يأتون من تسع مديريات".
ويضيف محمود: "الحوثي يقصف كل شيء في الضالع، الحجر والشجر والمنازل ناهيك عن استهداف المدنيين، فتخيل أنهم قنصوا نساء في قرى شمال قعطبة وهن في الطرقات يحاولن جلب الماء من الآبار!".
ويردف محمود قائلا: "نبعث مناشدة لمنظمات حقوق الإنسان العاملة في بلادنا للقدوم إلى مناطق الحرب في الضالع لتوثق جرائم الحوثي بحق المدنيين العزل, إنهم يرتكبون جرائم يندى لها الجبين, بالأمس استهدفوا منطقة حكولة بصاروخ بالستي وقبله صاروخ بالستي يستهدف قرى آهلة بالسكان شمال سناح, ناهيك عن استهداف الأطفال والنساء في قرى شمال قعطبة وقد رأيتم كيف قتلوا المواطنة أصيلة الدوبحي في العود لا لشيء إلا لكونها رفضت أن تدعهم يدخلون منزلها بعد أن قتلوا أخاها".
مريس المعاناة لا تنتهي
في جولتنا إلى مريس رأينا صور المعاناة التي يتجرعها المواطنون لا سيما والمنطقة التي يعتمد سكانها بشكل رئيس على بيع القات تقع في وسط مناطق الاشتباكات ولا يفصلها عن مواقع المليشيات إلا كليو متر واحد.
الناس في قرى مريس نزحوا إلى مناطق الجبارة وقعطبة، الكثير منهم لجؤوا إلى المدارس حيث يكافحون من أجل البقاء في ظل أوضاع إنسانية صعبة, حيث تواجه الأسر التي نزحت من مريس صعوبة في إيجاد سبل العيش, في الوقت الذي تفتقر فيه المدارس التي نزحوا إليها لأبسط الخدمات, فالحصول على الماء والغاز أمر في غاية الصعوبة في ظل ازدحام تلك المدارس بأعداد النازحين الذين وجدوا أنفسهم يتقاسمون الحمامات وأماكن الطبخ".
مهمشو قرية الصدرين.. قصة وجع لم تحرك ضمير الإنسانية
ونحن عائدون من مريس لفت انتباهنا أطفال بعمر الزهور شاخت وجوههم قبل بلوغهم، أولئك الأبرياء من فئة المهمشين الذين يقطنون قرية الصدرين جنوب مريس, راعنا منظر أطفال القرية وهم يرتصون على جنبات الطريق بانتظار ما تجود به أيادي مسؤولي الإمداد في جبهة مريس, الذين يرمون ما تجود به أنفسهم من بقايا خبز وأرز وكدم عند عودتهم من توزيع الغذاء على المقاتلين في جبهة مريس.
انحدرنا نحو القرية القريبة من الخط الرئيس وتوقفنا أمام عشرات الأكواخ بعضها بني من حجر لا يتجاوز مساحته مترين في متر والكثير منها مبنية من طرابيل.
تحدثنا إلى جمال الحجري، مندوب فئة المهمشين في منطقة مريس، والذي قال إن قريته منكوبة ولا مجيب. وأضاف: "قريتنا تقع في منطقة حرب, من أمامنا معسكرات القوات الحكومية ومن خلفنا الحوثيون, وهكذا صرنا نموت في أكواخنا ولا أحد يعلم بنا وبحالنا".
كلمات مؤلمة تحدث بها جمال الذي أردف بالقول: "قريتنا تعاني مجاعة منذ أن اشتدت الحرب فنحن ليس لنا مصدر رزق وعايشين على الأجر اليومي ومنذ أن اشتعلت الحرب وتقدم الحوثيون باتجاه مريس انقطعت بنا السبل, فلا نحن قادرين نخرج نطلب الله بما تيسر، ولا ضمير الإنسانية التفت لمعاناتنا, كل المنظمات تأتي وتتجه نحو الجبهات والنازحين فيما نحن لا ندري إلى أين ننزح، فنحن فئة مهمشة لا يكترث بنا أحد".
جمال قال إن القرية موبوءة بالكوليرا وحمى الضنك في ظل انعدام الخدمات الطبية وإغلاق المركز الصحي بمريس بسبب المعارك.
الكوليرا تحصد أرواح عشرات الأطفال في القرية
جمال قال إن 12 طفلا توفوا منذ اشتداد المعارك بين الحزام الأمني والمقاومة والحوثيين في مارس 2019 وجميعهم توفوا بعد إصابتهم بإسهالات حادة تعذر إسعافهم نظرًا لاشتداد المعركة وغياب المواصلات ومدينة الضالع تغرق في مستنقع الصرف الصحي.