
يواصل البعض – وفي مقدمتهم عبدالملك المخلافي – طرح سرديات قديمة تتجاهل جوهر الأزمة اليمنية، وتتعامل مع التحولات في الجنوب باعتبارها “استغلالاً لفراغ في الشمال”، أو “انفصالاً غير مشروع”، متغافلين عن حقائق راسخة شكلت مسار الأحداث منذ عام 1990.
الحقيقة الأولى أن الجنوب لا ينشأ اليوم من فراغ، بل يعود إلى وضعه الطبيعي كدولة قائمة قبل الوحدة، تمتعت بالسيادة الكاملة وكانت عضواً في الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة عدم الانحياز. وقد دخل الجنوب في وحدة طوعية مع دولة أخرى، وهو ما يجعل الاتفاق خاضعاً لقواعد القانون الدولي، بما في ذلك حق الطرفين في إنهاء الاتفاق عند وقوع الإخلال الجوهري أو تحوله إلى أداة قسرية. ذلك ما حدث بعد حرب 1994 التي أنهت مضمون الوحدة وحولتها إلى نظام ضم بالقوة.
ورغم ما يسوقه البعض من ادعاءات حول “قدسية الوحدة”، فإن الشرعية الدولية لا تبقي الدول موحدة بالإكراه، بل ترتكز على احترام إرادة الشعوب ومبدأ تقرير المصير. وتجارب كثيرة – من سنغافورة إلى جنوب السودان وتيمور الشرقية – تؤكد مشروعية عودة الدول إلى أوضاعها السابقة حين تفشل تجربة الوحدة أو تتحول إلى مسار أحادي يفتقر لشروط الشراكة.
إن تباكي القيادي الناصر عبدالملك المخلافي وزير الخارجية الاسبق على الوحدة ليس بجديد على هذا الرجل الذي يدعي الناصرية ولا يقتدي بسلوك الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر.!
فعبدالناصر يا مخلافي عندما وجد بان وحدة مصر مع سوريا فقدت مقومات بقاءها اعلن فك الارتباط وعودة الدولتين الى وضعهما السابق قبل الوحدة بين البلدين.
كما أن الحديث عن “خلافات جنوبية” لم يعد دقيقاً ولا يعكس الواقع. فالمجلس الانتقالي الجنوبي أصبح الإطار الأكثر حضوراً وتمثيلاً لقضية شعب الجنوب، وقد تمكن عبر مسار الحوار الوطني – الداخلي والخارجي – من بناء توافق جنوبي واسع توّج بميثاق وطني شاركت فيه مختلف القوى من المهرة إلى باب المندب. وفي المقابل، لا يزال الشمال يعيش حالة انقسام بنيوي عميق تهيمن عليه جماعات مسلحة ومشاريع متعارضة.
أما التوظيف السياسي لفشل الدولة اليمنية في الشمال لتبرير استمرار الوحدة، فهو قلب للواقع. فالوحدة المنهارة هي التي أفضت إلى هذا الوضع، وليس العكس. واليوم يتعامل المجتمع الدولي والإقليمي مع الجنوب باعتباره طرفاً رئيسياً في المعادلة، وشريكاً أساسياً في أي مسار سياسي، بحكم قدرته على فرض الاستقرار وبناء مؤسسات أمنية وعسكرية منضبطة في جغرافيته المحررة.
ويبقى القول بأن إعلان الدولة الجنوبية سيجلب تهديد الحوثيين نوعاً من الذرائع السياسية أكثر منه تقديراً موضوعياً للواقع. فالجماعة تمارس تمددها العسكري منذ سنوات، بغض النظر عن شكل الدولة اليمنية، بينما يمتلك الجنوب اليوم بنية دفاعية متماسكة وإجماعاً شعبياً راسخاً يؤمّن مساره السياسي.
إن استعادة الدولة الجنوبية ليست مغامرة، بل استحقاق تاريخي وقانوني وشعبي فرضته حقائق الواقع، وسقوط مشروع الوحدة منذ ثلاثة عقود، وإصرار الجنوبيين على استعادة دولتهم وفق قواعد القانون الدولي وبإرادة واضحة لا يمكن تجاهلها أو إلغاؤها بخطابات مضللة أو مقالات سياسية متهافتة.