ترتسم في اليمن ملامح أزمة اقتصادية غير مسبوقة ترتقي إلى مرتبة “الكارثة”، ليس فقط بسبب الحرب الدائرة في البلد منذ قرابة الستّ سنوات، ولكن بسبب تضاؤل موارد الممولين الخارجيين وأبرز مقدّمي المساعدات للبلد جرّاء تأثر اقتصادياتهم بجائحة كورونا وتراجع أسعار النفط، وفي مقدّمة هؤلاء المملكة العربية السعودية.
وما يجعل انتقال أزمات الممولين الخارجيين إلى الداخل اليمني أمرا آليا، هو تعويل أبرز طرفين ممسكين بزمام السلطة في البلد؛ الحكومة الشرعية والمتمرّدين الحوثيين، بشكل كامل على المساعدات الخارجية التي كان لها أثر فعلي في تنشيط الدورة الاقتصادية المتهالكة وتحسين الأوضاع الاجتماعية، لكن بشكل محدود بسبب سوء التصرّف في تلك المساعدات وإهدار أجزاء منها وذلك في انعكاس للفساد المستشري لدى الطرفين المتضادّين.
كذلك يؤثّر تباطؤ الأنشطة الاقتصادية في السعودية وتراجع مواردها المالية بشكل كبير على تحويلات اليمنيين العاملين في المملكة إلى بلدهم، ما يدفع أسرهم إلى حافة الفقر المدقع الذي تعجز معه تلك الأسر عن توفير أبسط ضرورات الحياة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.
وورد في تقرير لوكالة فرانس برس أنّ السعودية أنفقت عشرات المليارات من الدولارات لدعم اليمن أفقر دولة في العالم العربي على شكل مساعدات إنسانية وإعانات من الوقود بالإضافة إلى إيداعات مالية في المصرف المركزي اليمني ودعم العملة المحلية.
وبعد تأثير الصدمة المزدوجة من انخفاض أسعار النفط بالإضافة إلى فايروس كورونا، يقول مراقبون إن المملكة لا يبدو أنّها قادرة على تقديم الدعم ذاته لليمن حتى مع استمرار الإنفاق العسكري الضروري لمواصلة التحالف العسكري، الذي تقوده السعودية في تصدّيها للمتمرّدين الحوثيين الذين ينظر إليهم باعتبارهم وكلاء لإيران ومنفّذين لمشروع توسّعها بجنوب شبه الجزيرة العربية.
وبحسب مراقبين، فإنّه سيكون من المنطقي أن تراجع السعودية دورها في اليمن وأن تعدّله وفق المستجدّات الاقتصادية التي فرضت واقعا جديدا لا بدّ من التعامل معه.
ونقلت الوكالة الفرنسية عن مسؤول غربي يتابع التدخل السعودي في اليمن قوله “لم يعد السعوديون يميلون إلى ضخّ الملايين والمليارات غير المحدودة في اليمن”.
وجاءت المملكة طوال السنوات الأخيرة في مقدّمة المانحين لليمن، ولذلك سيكون لتراجع دعمها للبلد أكبر تأثير على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية.
ويتوقع محللون أن تتراجع قيمة الريال اليمني بشكل كبير هذا العام مع استنفاد الوديعة التي ضخّتها السعودية بالبنك المركزي اليمني سنة 2018 بقيمة حوالي 2 مليار دولار، ما يعني تقليص القدرة الشرائية لليمنيين ويجعل الملايين من الأشخاص غير قادرين على تحمل تكلفة المواد الغذائية الأساسية.
ولم يتبق من هذه الوديعة سوى أقل من 200 مليون دولار في مايو الماضي، بحسب مشروع “أكابس” غير الربحي الذي يضم مجموعة من المنظمات الخيرية من بينها المجلس النرويجي للاجئين.
وحذر المشروع في تقرير له من أنّ “اليمن يبدو ضعيفا اقتصاديا بشكل متزايد”، معتبرا أن توقف الدعم المالي السعودي سيؤدي إلى تراجع حاد في قيمة العملة المحلية.
وفي نطاق البحث عن بدائل تخفّف الحاجة للدعم السعودي، حصلت الأمم المتحدة أوائل الشهر الجاري على تعهّدات بقيمة 1.35 مليار دولار من المساعدات الإنسانية لليمن في مؤتمر للمانحين استضافته السعودية عبر تقنية الفيديو كونفرنس، إلاّ أن هذا الرقم يوازي نحو نصف التمويل المطلوب والبالغ 2.41 مليار. ويشهد اليمن بالفعل أسوأ أزمة إنسانية في العالم بحسب الأمم المتحدة التي تقدّر أن 80 في المئة من السكان، أي نحو 24 مليون شخص “بحاجة إلى مساعدة غذائية”.
ويأتي في قلب الخلل الاقتصادي في البلاد انقسام المصرف المركزي إلى مركزين ماليين يتعاملان مع عملة واحدة، الأول في عدن التي أصبحت عاصمة للحكومة المعترف بها دوليا، والثاني في صنعاء الخاضعة لسيطرة المتمردين الحوثيين.
ويزيد النزاع الدائر بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة اليمنية التي يتهمها المجلس بلعب دور الواجهة لحزب الإصلاح التابع لجماعة الإخوان المسلمين من تعقيد الأزمة.
ومؤخّرا أقدم المجلس الذي سبق له أنّ أعلن الإدارة الذاتية في عدن ومناطق جنوب البلاد الواقعة تحت سيطرة قوّاته، على مصادرة شحنة من العملات النقدية تابعة للبنك المركزي بقيمة نحو 80 مليون دولار. وقال متحدّث باسم المجلس إنّ الهدف من العملية منع تراجع أكبر للعملة اليمنية. ويواجه المصرف المركزي الخاضع لسيطرة الحكومة إمكانية العمل دون أي أموال.
وأكّد مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية في تقرير نشر حديثا أن الخلاف بين الحكومة والانتقالي “خلق ظروفا ستؤدي إلى ثني السعودية عن تجديد دعمها للاحتياطي الأجنبي”.
وبحسب المركز فإنّه “لا يبدو أن هناك أي مانح دولي آخر مستعد ليحل محل السعودية في تقديم الدعم لليمن، فيما تنفذ المملكة اقتطاعات هائلة من ميزانيتها”.
وتحذر منظمات غير حكومية مثل أوكسفام من تراجع غير مسبوق للتحويلات المالية إلى اليمن، وهو شريان حياة رئيسي للملايين بينما الحكومة غير قادرة على دفع الرواتب.
وتقول أوكسفام إن مقدمي خدمات تحويل الأموال النقدية في ست محافظات يمنية شهدوا تراجعا للتحويلات بأكثر من 80 في المئة خلال الفترة ما بين يناير وأبريل الماضيين.
وسبّب التراجع تأثر 1.6 مليون يمني يعملون في السعودية وكانوا يمثلون المصدر الرئيس للتحويلات المالية، بأوضاع المملكة حيث يواجه العمال الأجانب هناك موجات من التسريح وخفض الرواتب ضمن أسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود.
ويقول المستشار السياسي لمنظمة أوكسفام في اليمن عبدالواسع محمد لوكالة فرانس برس إنّه “مع اعتماد الملايين من اليمنيين على التحويلات المالية من دول الخليج، خاصة من السعودية، فإن أي اضطراب اقتصادي هناك ستكون لديه عواقب كبرى في اليمن”. ويضيف “دون قيام أفراد العائلة بإرسال الأموال للأساسيات مثل الطعام والإيجار، فإن المزيد من العائلات ستضطر للاستدانة أو ستقوم بالاستغناء عن وجبات طعام لتغطية نفقاتها”.
وعلى الرغم من الصعوبات المالية، يستبعد أن تراجع السعودية إنفاقها العسكري المرتبط بالحرب في اليمن، نظرا لارتباط تلك الحرب بقضية استراتيجية تتعلّق بالصراع ضدّ إيران ذات الأطماع التوسعية لاسيما في اليمن المشرف على ممرّات بحرية حيوية تعتبر الرياض أنّ المساس بها خط أحمر.